4‏/8‏/2008

أحزان الخريف ...... كريستي


أعزائي
القصه اللي حتقروها دي قصه حقيقيه
كنت قريتها من اكتر من سنه مؤلفها الدكتور /صلاح خليل كان بعتهالي
اتنشرت في مجله الهلال بعدد المجله الصادر في مايو 2007
وبتصريح من الاستاذ / مجدي الدقاق رئيس تحرير مجله الهلال .

مطعم شرقي صغير يشيع الدفء في داخله وسط تلك المدينة الشمالية الباردة النائية في أقصي الشمال حيث الجليد والجمال والشمس الغائبة. هو ...غريب من الجنوب ، القي عصا الترحال بعد رحلة طويلة من بلاد تسطع فيها الشمس وتقسو فيها الحياة، وجهه اسمر بينما بد ت عيناه السوداوتان أعمق مما تبدو العيون عادة ، حيث أطل منهما حزن عميق صهرته الغربة وجمده الجليد فصار جزءا من ملامحه.
وابتسمت، كل وجهها ابتسم، غمازتاها وشفتاها وعيناها من خلف نظارتها الطبيةالأنيقة، ولاحت ابتسامة مترددة علي شفتيه
.

-قال : أيعجبك طعامنا الشرقي؟
-قالت :أحب كل شيء يأتي من حيث أتيت.
تساءل ضاحكا..أتعرفين بلدي اذن ومن أين أتيت؟
قالت من أقدم بلاد الدنيا حيث الشمس والرمال وتلك الوجوه السمراء
وهمس لنفسه : وحيث الحرية المهيضة والحقوق الضائعة وسجون الواحات .
واشتعل الدفء في داخله رغم قسوة الذكريات، فقد مرت ليال وليال عليه في تلك البلاد النائية، في وحدة بدت لانهائية حتي أشرفت نفسه علي يأس حقيقي.
- قال.. فنجان من الشاي بعد العشاء معي اذن ؟؟؟
وجاءه الرد سريعا: أعرف مكانا نستطيع أن نتناول فيه القهوة الشرقية.
وخرجا الي الشارع، ولفحت وجهيهما نسمة شمالية باردة، وفي مودة دهش لها، تـابطت ذراعه وسارا يتحادثان، وقادته الي مطعم شرقي صغير لتناول القهوة التركية كما يسمونها ، وفرغت القهوة ولكن الحديث لم ينته، وكان الليل في أوله ، اذن فلا ضرر من الشاي في مكان معيشتي؟
نظرت اليه بعينيها الضاحكتين وقالت باسمة لامانع ولكني لن أحبك اليوم – فقد كانا في تلك البلاد حيث يحدث الحب كما ينزل المطر - وتعجب لصراحتها، ولكنه كان قادما جديدا علي تلك البلاد علي أي حال ، رغم سنوات غربته القليلة ولم يكن ليدرك تماما- بعد- كيف يمكن أن تطلق الحرية في هذه البلاد ألسنة وعقول أهلها بلا خوف ولا نفاق.
وفي شقته شبه الأنيقة، ذابت مسافات وأندثرت بينهما الكثير من الحواجز ، عرف قصتها وكيف انها كانت متزوجة من رجل شمالي من بني وطنها وسارت بهما الحياة الي أن مرضت هي مرضا خطيرا ، ذلك الذي أحيانا ما يقضي علي العمر في ساعات.
وتأمل ذلك الوجه الجميل ، والذي انعكست أضواء الشموع عليه فزادته جمالا ، ولاحظ شعيرات بيضاء في شعرها الجميل ،
قالت: لست متصابية ولكن لقد غزا الشيب شعري مبكرا ولذلك أبدو أكبر من عمري ، ثم ضحكت في أنوثة عذبة وقالت ولكنك لم تسألني لماذا لا أستطيع أن أحبك اليوم .. أليس هذا ما نفعله جميعا هنا؟
أطرق في خجل ، فرغم سنوات الغربة – كانت طبيعته الشرقية الخجول تكمن في أعماق سحيقة في داخله لا يمكن الوصول اليها .
قالت مبتسمة وهي تنظر في عينيه .. اليس جميلا أن يخجل الرجال أحيانا ؟ ، ألا تري كم أنتم رائعون ؟ ... كم أحسدكم .. انتم سلالات الحضارات العاقلة ولأجناس الحكيمة،
ودهش لكلماتها وتذكر وطنه واعتصر قلبه حزن قديم بدا مزمنا بلا أمل في الشفاء، وهمس لنفسه ساخرا : اذا كنا كذلك سلالات الحضارات العاقلة ولأجناس الحكيمة حقا فكيف نسمح بالطغيان أن يحكمنا ،وبالظلم أن يسود بلادنا ، وبالحرية أن تكبت فيها ، كيف تفعل هذه الأجناس الحكيمة بأبنائها ما تفعل، فاما يسجنون واما يتغربون ؟؟؟
قالت مستطردة في حديثها: عندما تمرض امرأة بهذا المرض ، فانهم يستأصلون الثديين والرحم، انهم يقومون بتفريغناحتي نستطيع أن نستمر في الحياة ، وأي حياة .....!
وأحس بمرارة طاغية وهي تقول له : قل لي أي حياة هذه لامراة بلا ثديين وبلا رحم ؟

عبر ذاكرته – تمثال خشبي غريب لمثال تجريدي كان قدشاهده معروضا في متحف "لويزيانا" خارج المدينة، كان اسم التمثال" امرأة" وكان يبدو كجذع شجرة ضخمة بها تجويف كبير – ولم يستطع حينها أن يفهم ماذا كان يقصد الفنان من هذا التمثال الغريب ولماذا أطلق عليه اسم امرأة ،وتبادر الي ذهنه مع حديث كريستي وكان هذا هو اسمها - تري تري أكان الفنان بهذا التمثال يعبر عن الرحم – رامزا الي المرأة
وصمتت قليلا وتطلع اليها في حزن وتراءت له دموعها خلف زجاج نظاراتها بينما غزت وجهها سحابة من الكآبة بدت عاتية ، واستطردت: عندما عدت من المستشفي ، لم يستطع زوجي أن يحبني، وبكيت ليال كثيرة، لقد أحسست بنفسي خاوية ، وبحياتي خاوية، وتلاشي احساسي بنفسي كامرأة ، قد تجد عذرا لزوجي ، ولكن احساسي بالفراغ كان يتزايد في داخلي ، وتلاشت أبعاد كثيرة لحياتي ، أحسست بالدنيا تضيق بي وتصغر بقدر لم أعرفه من قبل ، وانهار زواجي وطلقني زوجي ، وكدت أقتل نفسي ، ولكنك تعرف ، كم تقوم الدولة بالعناية بنا هنا ، فكان العلاج النفسي سببا في حمايتي من الاقبال علي الانتحار ، الي أن حدث لي أفضل شيء في حياتي، قابلت بعد طلاقي رجلا من بني وطنك، استعدت معه جزءا من حياتي وجزءا من نفسي، لم يعاملني شاب من بني وطني كما كان يعاملني هو ، ونطقت اسمه بلكنة غريبة ولكنه استعذبها، وصاح : ولكنكم تقولون اننا نستعبد نساءنا .
قالت: هذا ما يقوله من لا يعرفكم ، انكم رائعون عندما تحبون ، لقد كنت أحس وأنا معه انني ملكة متوجة ، ولا تدهش اذا علمت أن زوجي السابق كان سعيدا عندما علم انني استعدت حياتي مرة أخري ، ولو مع رجل غريب عن وطننا.وأحس بضآلة ما يعرفه عن الحياة .
واستطردت كريستي ولكنه لم يكن يعلم أن مصدر سعادتي كان حبا عميقا رائقا ، تزينه الزهور والشموع ، حبا لا يستطيع منحه سوي واحد منكم ، حيث الانسانية والدفء في داخله منذ الأزل .
وتساءل : ماذا حدث لرجلك الشرقي اذن؟
صمتت قليلا ثم قالت : عاد الي بلدكم يوما لسبب لم يفصح لي به، وأخبرني في خطاب له أن عليه أن يؤدي واجبا نحو وطنه ثم يعود ...ثم انقطعت عني أخباره ولم يعد ، يبدو أن رمال بلادكم أحيانا ما تظمأ لدماء أبنائها. خيل اليه انه فهم.
بدا الزمن عدوا لدودا رابضا خلف عقارب الساعة ، ولاح الفجر يتسلل في حذر من خلال النافذة الكبيرة في حجرة معيشته ، وسألها في خجل ولكنك شفيت الآن أليس كذلك؟ ويبدو أنها لم تجد جوابا لسؤاله فأبتسمت .
وأعلنت عن رغبتها في الانصراف ، عانقته في ود وأفترقا بعد وداع دافيء كأنهما أصدقاء منذ زمن ووعدته أن يسمع منها كلما قدمت الي العاصمة- حيث يقطن - فقد كانت تعيش في مدينة أخري ،من تلك المدن الشمالية خارج العاصمة.
ويبدو أن الزمن تباطأ أ قليلا ومرت شهور علي لقائهما ولم يسمع منها شيئا.
وفي مساء خريفي وحيد من أمسيات تلك المدينة الشمالية ، وفي نفس المكان حيث التقيا أول مرة ، لاحت عينان شاردتان من خلف نظارة طبية أنيقة، وصاح ... كريستي ؟؟ أين كنت طوال هذه المدة وتأملها ثم جفل صامتا.
قالت .. هل استطعت أن تتعرف علي؟
الوجه والعينان نعم ، ولكن شيئا ما قد حدث العينان شاردتان لا تنظران الي شيء ، البريق والحياة وتلك الآشياء التي لايمكن وصفها مفقودة
قال أكنت مريضة حتي تفقدين كل هذا الوزن؟
قالت لقد مرضت شهورا طويلة بعد لقائنا ، ولم أغادر المستشفي الا منذ زمن قصير ، ثم أردفت في صوت بدا أنه آت من أعماق بعيدة : لقد أصبحت أكثر "خواء" من ذي قبل.
تبدت له الحقيقة المفزعة ، وتجسمت في ذاكرته بعض عبارات من مقالات طبية كان قد قرأها عن ذلك الوحش الخبيث في آخر مراحله، وكيف يسلب الحياة من عيون ضحاياه ، ويلتهم أجسامهم حتي تتحول الي هياكل نحيلة تغطيها بشرة ذات لون مقيت، وغالب الحزن في نفسه قائلا في افتعال ألا نتناول القهوة معا ؟
ونظرت اليه بعينيها الشاردتين وتمتمت : سوف ألحق بالقطار، لافائدة من أي شيء.
وفي الطريق الي المحطة، تجمدت الكلمات بينهما فسارا صامتين، ولا حظ أنها حتي لم تتأبط ذراعه كما فعلت في المرة السابقة وكأنها ، عن دون قصد ، تتناءي عنه وربما عن الحياة نفسها محافظة علي مسافة بينهما ، وبدت كريستي في صمتها ونحولها وتنائيها عنه كشجرة متهالكة من شجرات خريف قديم ،تآكل جذعها و تساقطت أوراقها وعبثت الرياح بأغصانها .
وعندما تحرك القطار بها، كان آخر ماشاهده منها يدا نحيلة تلوح له في بطء وعينين ذابلتين حائرتين وعظام وجه نحيل صامت سلبت منه الحياة. وفي طريق خروجه من المحطة تطلع الي سقف المحطة ولاحظ ، ولأول مرة أن سقف المحطة يبدو كجدار وعاء خال كبير.
وكان قد تعود في غربته الشمالية كلما استيقظت أحزانه أن يستمع الي مختارات من الحان البيانو والكمنجة ، فيما كان يطلق عليه هو :" سوناتات الغربة "، فتهدأ نفسه وتزول هواجسه رغم كل شيء، وعندما تهادت نغمات هذه الألحان الي أذنيه تلك الليلة أحس بالحزن الذي تحمله هذه النغمات يتسلل الي داخله ويقبع هناك في سكون ، ولازمه ذلك الحزن فترة طويلة بعد رحيل كريستي.
دكتور صلاح خليل. كوبنهاجن –فبراير 1983
بصراحه قريت القصه دي اكتر من 10 مرات وكل مره بوجع قلب اكتر من المره اللي قبلها
بس زي ماقلتلكم في الاول انها قصه حقيقيه .
بشكر دكتور صلاح علي ارساله القصه وموافقته علي نشرها .
وزي ما اتعودنا ننهي لقائنا ونقول
يارب يديم الود بينا


هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

سلامتك يالولا من وجع القلب
فعلا قصه مؤثره . البطله مسكينه اكتر شيء مؤلم هو ضياع الحب
بس برضه من غير وجع لقبك
وزي مابتقولي يارب يديم الود بينا
يارب .. يارب .. يارب

دكتور محود الزهار

غير معرف يقول...

إختيار رائع لينا .. أكثر من رائع
وللدكتور صلاح خليل أقول ..
قصة تمس شغاف القلب دكتور ..نقلتنا إلى حالة إنسانية غاية في الرومانسية الواعية.. بقُدرة مُتألقة على الربط بين شمال بارد حُر .. وجنوب مُنكفئ حااار ..
ما أروعك ..
ما أروع نجوم من بلادي تتألق في سماء الله تبعث فينا الأمال الهاربة ..
لينا الغالية لكِ أطيب أمنياتي بسعادة تليق بكِ وغدٍ أجمل ..
يوسف المنيلاوي